سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا، فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا، وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم، ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه، فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم، بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية، ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة. ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم، وعند هذا يظهر أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا، وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا. ومن الله التوفيق. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الخطاب، وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام، إلا أن المراد منه كل المؤمنين، أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين، ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] الآية.
المسألة الثانية: الإعجاب: السرور بالشيء مع نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره، والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء، ولذلك قال عليه السلام: «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه» وكان عليه السلام يقول: «هلك المكثرون» وقال عليه السلام: «ما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت».
وذكر عبيد بن عمير، ورفعه إلى الرسول عليه السلام: «من كثر ماله اشتد حسابه، ومن كثر بيعه كثرت شياطينه، ومن ازداد من السلطان قرباً، ازداد من الله بعداً».
والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة، والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا، والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها.
قال بعض المحققين: الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام: الأول: الذي يكون أزلياً أبدياً، وهو الله جل جلاله والثاني: الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا.
والثالث: الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود، لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.
والرابع: الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين، فإن الآخرة لها أول، لكن لا آخر لها، وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول، ولا آخر لها.
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبين الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا، ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا، وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا.
أما قوله: {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال النحويون: في الآية محذوف، كأنه قيل: إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم، ويجوز أيضاً أن يكون هذا اللام بمعنى أن كقوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] أي أن يبين لكم.
المسألة الثانية: قال مجاهد والسدي وقتادة: في الآية تقديم وتأخير. والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
وقال القاضي: وهاهنا سؤالان: الأول: وهو أن يقال: المال والولد لا يكونان عذاباً، بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده، فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير، إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال. لأنه يقال: بعد هذا التقديم والتأخير، فكيف يكون المال والولد عذاباً؟ فلابد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير، لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سبباً للعذاب، وأيضاً فلو أنه قال: {فَلاَ تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا} لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة، لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا، وليس كذلك حال العذاب، فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء.
المسألة الثالثة: الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الدنيا، ويحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الآخرة.
أما كونها سبباً للعذاب في الدنيا فمن وجوه:
الأول: أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى، كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب، وكان خوفه على فواته أشد وأصعب، فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها، وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها. فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها.
والثاني: أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة، ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها، فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه، فالمشغوف بالمال والولد أبداً يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك، ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال، فالتعب كثير والنفع قليل.
والثالث: أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد، فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره، أولا تبقى، بل تهلك وتبطل. فإن كان الأول، فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته، لأن مفارقة المحبوب شديدة، وترك المحبوب أشد وأشق، وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها، واشتد تألم قلبه بسببها، فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا.
الرابع: أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها، فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها، فيصير ذلك سبباً لحرمانه عن ذكر الله، ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر، وكلما كان المال والجاه أكثر. كانت تلك القسوة أقوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّءاهُ استغنى} [العلق: 6، 7] فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب، فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة، فيعظم تألمه وتقوى حسرته، ثم عند الحشر حلالها حساب، وحرامها عقاب. فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل، فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب؟
قلنا: المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب: أحدها: أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا، فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا، وأما المنافق لما اعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها، واشتد حبه لها، وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه، وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته، فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد.
وثانيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات، ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو، وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل، والقوم كانوا يعتقدون أن محمداً ليس بصادق في كونه رسولاً من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة، وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة، ولا شك أن هذا أشق على القلب جداً، فهذه الزيادة من التعذيب، كانت حاصلة للمنافقين.
وثالثها: أنهم كانوا يبغضون محمداً عليه الصلاة والسلام بقلوبهم، ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته، ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة.
ورابعها: أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهوراً تاماً، فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار، وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل، وسبي الأولاد ونهب الأموال، وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة، وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب.
وخامسها: أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء، كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي، شهد بدراً وكان من الله بمكان، وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق، ويقدحون فيهم، ويعترضون عليهم، والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه، فصار حصول تلك الأولاد سبباً لعذابهم.
وسادسها: أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات، ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم. وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء، كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس، ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق، وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سبباً لحصول هذه الأحوال، فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سبباً لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} قالوا: لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر.
أجاب الجبائي فقال: معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين، وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريداً للكفر، ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، فهذه الإرادة لا توجب كونه مريداً لمرض نفسه، وقد يقول للطبيب: أريد أن تطيب جراحتي، وهذا لا يقتضي أن يكون مريداً لحصول تلك الجراحة، وقد يقول السلطان لعسكره: اقتلوا البغاة، حال إقدامهم على الحرب، وهذا لا يدل على كونه مريداً لذلك الحرب، فكذا هاهنا.
والجواب: أن الذي قاله تمويه عجيب، وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد، وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء، فإذا قال المريض للطبيب: أريد أن تدخل علي في وقت مرضي، كان معناه: أريد أن تسعى في إزالة مرضي، وإذا قال له: أريد أن تطيب جراحتي كان معناه: أريد أن تزيل عني هذه الجراحة، وإذا قال السلطان: اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب، كان معناه: طلب إزالة تلك المحاربة وإبطالها وإعدامها، فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف هذه الآية، وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره، وليس أيضاً مستلزماً لتلك الإزالة، بل هما أمران متناسبان، ولا منافاة بينهما البتة، فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين، وجب أن يكون مريداً لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق، كما أنه لو قال: أريد ألقى أن فلاناً حال كونه في الدار، فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار، وتمام التحقيق في هذا التقدير: أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته، فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر، وثبت أن من أراد شيئاً فقد أراد جميع ما هو من ضروراته، لزم كونه تعالى مريداً لذلك الكفر، فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه.


{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال: {وَيَحْلِفُونَ بالله} أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي على دينكم.
ثم قال تعالى: {وَمَا هُم مّنكُمْ} أي ليسوا على دينكم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} القتل، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مستهزؤون} [البقرة: 14] والفرق الخوف، ومنه يقال: رجل فروق. وهو الشديد الخوف، ومنها: أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب، فقوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً} الملجأ: المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله التجأ والجأته إلى كذا، أي جعلته مضطراً إليه، وقوله: {أَوْ مغارات} هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه، أي يستتر.
قال أبو عبيد: كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين. وقوله: {مُدْخَلاً} قال الزجاج: أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً، لأن التاء مهموسة، والدال مهجورة، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول، كالمتلج من الولوج. ومعناه: المسلك الذي يستتر بالدخول فيه.
قال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع. والمعنى: أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة، مع أنها شر الأمكنة {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} أي رجعوا إليه. يقال: ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين صاروا بهذه الحالة.
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي: الملجأ، والمغارات، والمدخل، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه، فالملجأ يحتمل الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار.
قال صاحب الكشاف: قرئ {مُّدْخَلاً} من دخل و{مُّدْخَلاً} من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبي بن كعب {متدخلاً} وقرأ {لَوْ ألو إِلَيْهِ} أي لالتجاؤا، وقرأ أنس {يجمزون} فسئل عنه فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي، وهو حرقوص بن زهير، أصل الخوارج فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل» فنزلت هذه الآية.
قال الكلبي: قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسلام: «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في تفسيره: أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان» فقال: مالي به علم إلا إنك تدنيه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره» فقال: لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه مؤمن أكله إلى إيمانه، وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده».
المسألة الثانية: قوله: {يَلْمِزُكَ} قال الليث: اللمز كالهمز في الوجه. يقال: رجل لمزة يعيبك في وجهك، ورجل همزة يعيبك بالغيب.
وقال الزجاج: يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر، وألمزه بضم الميم إذا عيبته، وكذلك همزته أهمزه همزاً.
إذا عيبته، والهمزة اللمزة: الذي يغتاب الناس ويعيبهم، وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز.
قال الأزهري: وأصل الهمز واللمز الدفع. يقال: همزته ولمزته إذا دفعته، وفرق أبو بكر الأصم بينهما، فقال: اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه، والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه.
إذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس: يلمزك يغتابك.
وقال قتادة: يطعن عليك.
وقال الكلبي: يعيبك في أمر ما، ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ.
قال أبو علي الفارسي: هاهنا محذوف والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات.
قال مولانا العلامة الداعي إلى الله: لفظ القرآن وهو قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب، إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك، ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها. فأحدها: أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز، لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز. أقصى ما في الباب أن يقال: يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء، فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء: فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول. فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود، وهو أنهم قالوا: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}.
وثانيها: أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير، فوجب أن تقنع بأقل من ذلك.
وثالثها: أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه.
وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه.
قال أهل المعاني: هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم، وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة، مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا.
قال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه.
وأما المنافقون: فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا، وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم، فسخط المنافقون. وقوله: {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} كلمة {إِذَا} للمفاجأة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط.
ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ} الآية والمعنى: ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل، وقالوا: كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيعطينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أعطانا اليوم، إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون.
واعلم أن جواب لو محذوف، والتقدير: لكان خيراً لهم وأعود عليهم، وذلك لأنه غلب عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم، فيتوكلوا على الله حق توكله، وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل، وهو كقولك للرجل: لو جئتنا، ثم لا تذكر الجواب، أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً.
المسألة الثانية: الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق.
وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق، والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله، ألا ترى أنه قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى الله راغبون} فذكر فيه مراتب أربعة:
المرتبة الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور، وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولا اعتراض عليه.
والمرتبة الثانية: أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم، وهو قوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية، فحسبنا الله.
والمرتبة الثالثة: وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول: {حَسْبُنَا الله} نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول: {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير، وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل.
والمرتبة الرابعة: أن يقول: {إِنَّا إِلَى الله راغبون} فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا، وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة. وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال: {إِنَّا إِلَى الله راغبون} ولم يقل: إنا إلى ثواب الله راغبون. ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال: ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله، فقال: أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله، فقال: ما الذي يحملكم عليه، فقالوا: الرغبة في الثواب، فقال: أصبتم، ثم مر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب، ولا للرغبة في الثواب، بل لإظهار ذلة العبودية، وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته، وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته. فقال: أنتم المحقون المحققون.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17